حول المجلة

تأسيس مجلَّة تاريخ دمشق

نستهلُّ العددَ الأوَّل من (مجلَّة تاريخ دمشق) لنتحدَّث عن الدَّوافع والأغراض التي كانت وراء السَّعي لتأسيسها، والعمل على انطلاقها، والتي تتمثَّل في الوَفاء لمدينة دمشق، والرغبة في الإحاطة بتاريخها الطويل، والتَّطلُّع لإظهار الجوانب المشرقة في حضارتها العريقة، آمِلين أن تكون هذه المجلَّة مرآة تظهر فيها جوانب من النُّور الَّذي انبثق من دمشق، منذ فجر التَّاريخ، وشعَّ في أرجاء العالَم.
وتكمن أهمِّيَّة مدينة دمشق في مسيرتها التَّاريخيَّة؛ فهي ظاهرة نادرة في التَّاريخ، وليس لأيِّ مدينة في العالم أن تشابهها أو تنافسها في صفاتها الفريدة، خاصَّة أنَّها أقدم عاصمة في التَّاريخ، ومن أقدم المدن المأهولة في العالم بعد مدينة حلب، إذ أكَّدت أعمال التَّنقيب في غوطتها وفي واديها (نهر بردى) أنَّها كانت مأهولة بالسُّكان منذ عشرة آلاف عام على أقلِّ تقدير.
وورد ذكرها عند غالبيَّة الدُّول والحضارات القديمة، وأتت على ذكرها الكتابات الآراميَّة والأكَّاديَّة والحيثيَّة والبابليَّة والفينيقيَّة والرُّومانيَّة واليونانيَّة.
واختلطت في دمشق حضارات الإغريق والفرس والرُّومان مع حضارات سكَّان دمشق الأصليِّين الكنعانيِّين والآراميِّين.
وفي التاريخ العربي الإسلامي أصبحت دمشق عاصمة للدَّولة الأمويَّة (41 ـ 132هـ = 661 ـ 749م)، الَّتي امتدَّت شرقاً إلى حدود الصِّين، وغرباً إلى المحيط الأطلسي، لتدخل عصرها الذَّهبي الأوَّل.
ومرَّ عليها العصر العباسي (132 ـ 656هـ = 749 ـ 1258م)، وحكمها خلاله عدَّة دول: الطُّولونيُّون والإخشيديُّون والحمدانيُّون والفاطميُّون والسلاجقة.
وعاشت دمشق عصرها الذَّهبي الثَّاني في العصر الزنكي (521 ـ 631هـ = 1127 ـ 1233م).
وفي عام (572هـ = 1176م)، انتقل صلاح الدِّين الأيُّوبي من مصر إلى دمشق فضمَّها إلى دولته.
ثم صارت تحت حكم المماليك (648 ـ 923هـ = 1250 ـ 1517م)، وزهت خلاله بعصرها الذَّهبي الثَّالث.
وفي عام (922هـ = 1516م)، سيطر عليها العثمانيُّون، وأصبحت بموجب التَّقسيمات السُّلطانيَّة مركز ولاية تشمل جنوبيَّ سوريَّة الكبرى.
وفي عام (1247هـ = 1831م) دخل إبراهيم باشا دمشق سِلماً باسم والده والي مصر محمد علي باشا.
ثم شهدت دمشق منذ منتصف القرن التَّاسع عشر توسُّعاً جغرافيّاً متزايداً في مساحتها وفي عدد سكَّانها، ليصل في النِّصف الثَّاني من القرن ذاته إلى (143057) بحسب الإحصاء الذي أورده نعمان أفندي قساطلي.
وظهرت في دمشق في أواخر القرن التَّاسع عشر وأوائل القرن العشرين الأبنية السَّكنيَّة الجميلة، مثل قصر ناظم باشا في حي المهاجرين (قصر خورشيد لاحقاً)، وقصر زيوار باشا العظم في الصَّالحيَّة، وقصر عثمان باشا (قصر نوري باشا) في جادَّة العفيف الذي أصبح مقرّاً لسكن السَّفير الفرنسي ولا يزال، ودار حسن آغا البارودي في القنوات.
ولمَّا انتهى الحكم العثماني في بلاد الشَّام عام (1918م = 1337هـ) جاء بعده الحكم العربي بزعامة الأمير فيصل بن الحسين الذي نُصِّب لاحقاً ولمدَّة قصيرة ملكاً حتى عام (1920م = 1339هـ) قبل أن تحتلَّ فرنسا سوريَّة بعد موقعة ميسلون.
وفي طلِّ الاحتلال الفرنسي جرت تطوُّرات كثيرة تحتاج إلى أبحاث مطوَّلة، وكذلك الأمر بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا.
ومع عِظم مدينة دمشق وتاريخها المديد، هنالك تقصير علمي وتوثيقيٌّ في حقِّها، ففيها جوانب كثيرة لم تُدرَس، ودراسات لم تُستكمل، ودراسات بحاجة إلى إعادة نظر، ودراسات متناثرة تحتاج إلى إكمال…
ومع ما يتَّصف به تاريخ دمشق من العراقة والخصوبة فلا تزال الدِّراسات عنه متفرِّقة هنا وهناك، لا يجمعها عقد واحد، فالكتب مشتَّتة عن تاريخها وأعلامها وفضائلها، وعن تاريخها السِّياسي والدِّيني والعلمي والاجتماعي والاقتصادي والإداري والعمراني والوثائقي.
وهنالك جوانب كثيرة عن هذه المدينة لم تأخذ حقَّها من البحث، وهذا الحكم يصدق على جميع الجوانب التَّاريخيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والعمرانية والعلميَّة والفنيَّة.
ثم إنَّ الدِّراسات الَّتي تحدَّثت عن المدن وتاريخها وخططها وتفاصيلها قليلة، بما في ذلك التَّأريخ لمدينة دمشق، قياساً على فنون التَّاريخ الأخرى الَّتي كُتب عنها مئات المؤلَّفات وربَّما الآلاف.
والمجلة التي بين أيدينا تسعى إلى التَّركيز على تاريخ دمشق، بغرض سدِّ الثَّغرات والتَّعويض عن التَّقصير في حقِّ هذه المدينة العظيمة، التي يمتدُّ تاريخها أكثر من عشرة آلاف عام.
فهذه المجلَّة ستسدُّ ثغرات واضحة في دراسات تاريخ دمشق، وتُسلِّط الضوء على أهم مزاياها التَّاريخيَّة والحضاريَّة.
ومن الضَّروري أن تكون مجلَّة مُحكَّمة؛ لضمان الجدِّيَّة والأصالة والابتكار والتنوُّع في الموضوعات والأساليب والمناهج، التي تظهر في الدراسات المنشورة.
وستكون الأولى من نوعها في العنوان وفي المضمون، والأولى بتفرُّدها التَّخصُّصي عن تاريخ مدينة دمشق.
وستتميَّز بالشُّموليَّة؛ إذ ستشتمل على كلِّ ما يتعلق بدمشق تاريخيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وعمرانيّاً وعلميّاً وفنيّاً ووثائقيّاً.
وستعمل هذه المجلَّة على امتداد زمني يزيد على عشرة آلاف عام من عُمر هذه المدينة، وهذا يعني أنَّها ستتخصَّص بكلِّ العصور التَّاريخيَّة لدمشق: القديمة والعربيَّة الإسلاميَّة والحديثة والمعاصرة.
وستأخذ هذه المجلَّة صفةً علميَّة منهجيَّة من خلال كادرها العلمي المتخصِّص والمكوَّن من كبار علماء دمشق ومؤرِّخيها وباحثيها.
وستتعهَّد هذه المجلَّة أن تكون مضبوطة بالعلميَّة والمنهجيَّة والأصالة والجدِّيَّة من خلال استقبال الأبحاث الرَّصينة والدَّقيقة والمنهجيَّة والجديدة، المتعلِّقة بدمشق فقط.
وستعمل هذه المجلَّة على أن تكون المتنفَّس العلمي _ المُتَّصف بالمصداقيَّة _ لكلِّ المهتمِّين والمتخصِّصين والغيورين على تاريخ هذه المدينة.
فكلُّنا أمل أن يشاركنا الباحثون والمتخصِّصون والمهتمُّون هذا المشروع العلمي الاستراتيجي التَّوثيقي، وأن يعملوا معنا على إنجاحه، فهو ملك للجميع، وثماره متاحة للجميع، فالغاية أن نُشكِّل عملاً جماعيّاً يخدم هذه المدينة بكلِّ تفاصيل حياتها.
والله الموفق

المدير ورئيس التحرير